فصل: تفسير الآيات (27- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (15- 26):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)}
ثم ذكر سبحانه افتقار خلقه إليه، ومزيد حاجتهم إلى فضله، فقال: {ياأيها الناس أَنتُمُ الفقراء إِلَى الله} أي: المحتاجون إليه في جميع أمور الدين والدنيا، فهم الفقراء إليه على الإطلاق، و{هُوَ الغنى} على الإطلاق {الحميد} أي: المستحقّ للحمد من عباده بإحسانه إليهم. ثم ذكر سبحانه نوعاً من الأنواع التي يتحقق عندها افتقارهم إليه، واستغناؤه عنهم، فقال: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} أي: إن يشأ يفنكم، ويأت بدلكم بخلق جديد يطيعونه، ولا يعصونه، أو يأت بنوع من أنواع الخلق، وعالم من العالم غير ما تعرفون {وَمَا ذلك} إلاّ ذهاب لكم، والإتيان بآخرين {عَلَى الله بِعَزِيزٍ} أي: بممتنع، ولا متعسر، وقد مضى تفسير هذا في سورة إبراهيم {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أي: نفس وازرة، فحذف الموصوف للعلم به، ومعنى تزر: تحمل. والمعنى: لا تحمل نفس حمل نفس أخرى، أي: إثمها بل كل نفس تحمل وزرها، ولا تخالف هذه الآية قوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]؛ لأنهم إنما حملوا أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم، والكلّ من أوزارهم، لا من أوزار غيرهم، ومثل هذا حديث: «من سنّ سنة سيئة، فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» فإن الذين سنّ السنة السيئة إنما حمل وزر سنته السيئة، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية مستوفى. {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا} قال الفرّاء: أي: نفس مثقلة، قال: وهذا يقع للمذكر، والمؤنث. قال الأخفش: أي وإن تدع مثقلة إنساناً إلى حملها، وهو: ذنوبها {لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ} أي: من حملها {شَئ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} أي: ولو كان الذي تدعوه ذا قرابة لها، لم يحمل من حملها شيئاً. ومعنى الآية: وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب نفساً أخرى إلى حمل شيء من ذنوبها معها لم تحمل تلك المدعوّة من تلك الذنوب شيئاً، ولو كانت قريبة لها في النسب، فكيف بغيرها مما لا قرابة بينها، وبين الداعية لها؟ وقرئ: {ذو قربى} على أن كان تامة، كقوله: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280].
وجملة {إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب} مستأنفة مسوقة لبيان من يتعظ بالإنذار، ومعنى {يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب}: أنه يخشونه حال كونهم غائبين عن عذابه، أو يخشون عذابه، وهو غائب عنهم، أو يخشونه في الخلوات عن الناس. قال الزجاج: تأويله أن إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم، فكأنك تنذرهم دون غيرهم ممن لا ينفعهم الإنذار، كقوله: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها} [النازعات: 45] وقوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِىَ الرحمن بالغيب} [يس: 11]. ومعنى {وَأَقَامُواْ الصلاة}: أنهم احتفلوا بأمرها، ولم يشتغلوا عنها بشيء مما يلهيهم.
{وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ} التزكي: التطهر من أدناس الشرك، والفواحش، والمعنى: أن من تطهر بترك المعاصي، واستكثر من العمل الصالح، فإنما يتطهر لنفسه، لأن نفع ذلك مختصّ به كما أن وزر من تدنس لا يكون إلاّ عليه لا على غيره. قرأ الجمهور: {ومن تزكى فإنما يتزكى} وقرأ أبو عمرو: {فإنما يزكى} بإدغام التاء في الزاي، وقرأ ابن مسعود، وطلحة: {ومن أزكى فإنما يزكى}. {وإلى الله المصير} لا إلى غيره، ذكر سبحانه أوّلاً: أنه لا يحمل أحد ذنب أحد، ثم ذكر ثانياً: أن المذنب إن دعا غيره، ولو كان من قرابته إلى حمل شيء من ذنوبه لا يحمله، ثم ذكر ثالثاً: أن ثواب الطاعة مختصّ بفاعلها ليس لغيره منه شيء.
ثم ضرب مثلاً للمؤمن، والكافر، فقال: {وَمَا يَسْتَوِى الأعمى} أي: المسلوب حاسة البصر {والبصير} الذي له ملكة البصر، فشبه الكافر بالأعمى، وشبه المؤمن بالبصير {وَلاَ الظلمات وَلاَ النور} أي: ولا تستوي الظلمات ولا النور، فشبه الباطل بالظلمات، وشبه الحقّ بالنور. قال الأخفش: و{لا} في قوله: {ولا النور}، {ولا الحرور} زائدة، والتقدير وما يستوي الظلمات والنور، ولا الظلّ والحرور، والحرور شدّة حرّ الشمس. قال الأخفش: والحرور لا يكون إلاّ مع شمس النهار، والسموم يكون بالليل. وقيل: عكسه.
وقال رؤبة بن العجاج: الحرور يكون بالليل خاصة، والسموم يكون بالنهار خاصة.
وقال الفراء: السموم لا يكون إلاّ بالنهار، والحرور يكون فيهما. قال النحاس: وهذا أصح.
وقال قطرب: الحرور الحرّ، والظلّ البرد، والمعنى: أنه لا يستوي الظلّ الذي لا حرّ فيه، ولا أذى، والحرّ الذي يؤذي. قيل: أراد الثواب والعقاب، وسمي الحرّ حروراً مبالغة في شدّة الحرّ، لأن زيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى.
وقال الكلبي: أراد بالظلّ الجنة، وبالحرور النار.
وقال عطاء: يعني: ظل الليل، وشمس النهار. قيل: وإنما جمع الظلمات، وأفرد النور لتعدّد فنون الباطل، واتحاد الحقّ.
ثم ذكر سبحانه تمثيلاً آخر للمؤمن، والكافر، فقال: {وَمَا يَسْتَوِى الأحياء وَلاَ الأموات}، فشبه المؤمنين بالأحياء، وشبه الكافرين بالأموات. وقيل: أراد تمثيل العلماء، والجهلة.
وقال ابن قتيبة: الأحياء العقلاء، والأموات الجهال. قال قتادة: هذه كلها أمثال، أي: كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن {إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاء} أن يسمعه من أوليائه الذين خلقهم لجنته، ووفقهم لطاعته {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن في القبور} يعني: الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم، أي: كما لا تسمع من مات كذلك لا تسمع من مات قلبه، قرأ الجمهور بتنوين: {مسمع} وقطعه عن الإضافة. وقرأ الحسن، وعيسى الثقفي، وعمرو بن ميمون بإضافته {إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} أي: ما أنت إلاّ رسول منذر ليس عليك إلاّ الإنذار، والتبليغ، والهدى، والضلالة بيد الله عزّ وجلّ.
{إِنَّا أرسلناك بالحق} يجوز: أن يكون {بالحقّ} في محل نصب على الحال من الفاعل، أي: محقين، أو من المفعول، أي: محقاً، أو نعت لمصدر محذوف، أي: إرسالاً ملتبساً بالحقّ، أو هو متعلق ب {بشيراً}، أي: بشيراً بالوعد الحقّ، ونذيراً بالوعد الحقّ، والأولى: أن يكون نعتاً للمصدر المحذوف، ويكون معنى بشيراً: بشيراً لأهل الطاعة، ونذيراً لأهل المعصية {وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} أي: ما من أمة من الأمم الماضية إلاّ مضى فيها نذير من الأنبياء ينذرها، واقتصر على ذكر النذير دون البشير، لأنه ألصق بالمقام.
ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وعزّاه، فقال: {وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي: كذب من قبلهم من الأمم الماضية أنبياءهم {جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي: بالمعجزات الواضحة، والدلالات الظاهرة {وبالزبر} أي: الكتب المكتوبة كصحف إبراهيم {وبالكتاب المنير} كالتوراة، والإنجيل، قيل: الكتاب المنير داخل تحت الزبر، وتحت البينات، والعطف لتغاير المفهومات، وإن كانت متحدة في الصدق، والأولى تخصيص البينات بالمعجزات، والزبر بالكتب التي فيها مواعظ، والكتاب بما فيه شرائع، وأحكام، {ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ} وضع الظاهر موضع الضمير يفيد التصريح بذمهم بما في حيز الصلة، ويشعر بعلة الأخذ {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي: فكيف كان نكيري عليهم، وعقوبتي لهم، وقرأ ورش عن نافع وشيبة بإثبات الياء في: {نكير} وصلاً ولا وقفاً، وقد مضى بيان معنى هذا قريباً.
وقد أخرج أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه عن عمرو بن الأحوص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: «ألا لا يجني جانٍ إلاّ على نفسه، لا يجني والد على ولده، ولا مولود على والده».
وأخرج سعيد بن منصور، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن أبي رمثة قال: انطلقت مع أبي نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيته قال لأبي: ابنك هذا؟ قال: أي، وربّ الكعبة، قال: أما أنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَئ} قال: يكون عليه وزر لا يجد أحداً يحمل عنه من وزره شيئاً.

.تفسير الآيات (27- 35):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)}
ثم ذكر سبحانه نوعاً من أنواع قدرته الباهرة، وخلقاً من مخلوقاته البديعة، فقال: {أَلَمْ تَرَ}، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكلّ من يصلح له {أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} وهذه الرؤية هي: القلبية، أي ألم تعلم، وأن واسمها وخبرها سدّت مسدّ المفعولين {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أي: بالماء، والنكتة في هذا الالتفات إظهار كمال العناية بالفعل لما فيه من الصنع البديع، وانتصاب {مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} على الوصف لثمرات، والمراد بالألوان الأجناس، والأصناف، أي: بعضها أبيض، وبعضها أحمر، وبعضها أصفر، وبعضها أخضر، وبعضها أسود {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ} الجدد جمع جدة، وهي: الطريق. قال الأخفش: ولو كان جمع جديد لقال جدد بضم الجيم والدال، نحو سرير وسرر. قال زهير:
كأنه أسفع الخدين ذو جدد ** طاوٍ ويرتع بعد الصيف أحياناً

وقيل: الجدد القطع، مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته، حكاه ابن بحر. قال الجوهري: الجدة: الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه، والجدة الطريقة، والجمع جدد، وجدائد، ومن ذلك قول أبي ذؤيب:
جون السراة له جدائد أربع

قال المبرد: جدد: طرائق وخطوط. قال الواحدي: ونحو هذا قال المفسرون في تفسير الجدد.
وقال الفراء: هي: الطرق تكون في الجبال كالعروق بيض، وسود، وحمر، واحدها جدة. والمعنى: أن الله سبحانه أخبر عن جدد الجبال، وهي: طرائقها، أو الخطوط التي فيها بأن لون بعضها البياض، ولون بعضها الحمرة، وهو معنى قوله: {بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها} قرأ الجمهور: {جدد} بضم الجيم، وفتح الدال. وقرأ الزهري بضمهما جمع جديدة، وروي عنه: أنه قرأ بفتحهما، وردّها أبو حاتم وصححها غيره، وقال: الجدد الطريق الواضح البين {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} الغربيب الشديد السواد الذي يشبه لونه لون الغراب. قال الجوهري: تقول هذا أسود غربيب، أي: شديد السواد، وإذا قلت غرابيب سود جعلت السود بدلاً من غرابيب. قال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: وسود غرابيب، لأنه يقال: أسود غربيب، وقلّ ما يقال: غربيب أسود، وقوله: {مُّخْتَلِف أَلْوَانُهَا} صفة لجدد، وقوله: {وَغَرَابِيبُ} معطوف على جدد على معنى: ومن الجبال جدد بيض، وحمر، ومن الجبال غرابيب على لون واحد، وهو: السواد، أو على حمر على معنى، ومن الجبال جدد بيض، وحمر، وسود. وقيل: معطوف على بيض، ولابد من تقدير مضاف محذوف قبل جدد، أي: ومن الجبال ذو جدد، لأن الجدد إنما هي في ألوان بعضها.
{وَمِنَ الناس والدواب والأنعام مُخْتَلِفٌ ألوانه} قوله: {مختلف} صفة لموصوف محذوف، أي: ومنهم صنف، أو نوع، أو بعض مختلف ألوانه بالحمرة، والسواد، والبياض، والخضرة، والصفرة. قال الفراء، أي: خلق مختلف ألوانه كاختلاف الثمرات، والجبال، وإنما ذكر سبحانه اختلاف الألوان في هذه الأشياء، لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله، وبديع صنعه، ومعنى {كذلك} أي: مختلفاً مثل ذلك الاختلاف، وهو صفة لمصدر محذوف، والتقدير مختلف ألوانه اختلافاً كائناً كذلك، أي: كاختلاف الجبال، والثمار.
وقرأ الزهري: {والدواب} بتخفيف الباء. وقرأ ابن السميفع: {ألوانها}. وقيل: إن قوله: {كذلك} متعلق بما بعده، أي: مثل ذلك المطر، والاعتبار في مخلوقات الله، واختلاف ألوانها يخشي الله من عباده العلماء، وهذا اختاره ابن عطية، وهو مردود بأن ما بعد إنما لا يعمل فيما قبلها. والراجح الوجه الأوّل، والوقف على: {كذلك} تامّ. ثم استؤنف الكلام، وأخبر سبحانه بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} أو هو من تتمة قوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب} [فاطر: 18] على معنى إنما يخشاه سبحانه بالغيب العالمون به، وبما يليق به من صفاته الجليلة، وأفعاله الجميلة، وعلى كل تقدير، فهو: سبحانه قد عين في هذه الآية أهل خشيته، وهم: العلماء به، وتعظيم قدرته. قال مجاهد: إنما العالم من خشي الله عزّ وجلّ.
وقال مسروق: كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار جهلاً، فمن كان أعلم بالله كان أخشاهم له. قال الربيع بن أنس: من لم يخش الله، فليس بعالم.
وقال الشعبي: العالم من خاف الله، ووجه تقديم المفعول أن المقام مقام حصر الفاعلية، ولو أخر انعكس الأمر. وقرأ عمر بن عبد العزيز برفع الاسم الشريف، ونصب العلماء، ورويت هذه القراءة عن أبي حنيفة قال في الكشاف: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: أنه يجلهم، ويعظمهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس، وجملة: {إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ} تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب على معصيته غافر لمن تاب من عباده.
{إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله} أي: يستمرّون على تلاوته، ويداومونها. والكتاب هو: القرآن الكريم، ولا وجه لما قيل: إن المراد به جنس كتب الله {وَأَقَامُواْ الصلاة} أي: فعلوها في أوقاتها مع كمال أركانها، وأذكارها {وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً} فيه حثّ على الإنفاق كيف ما تهيأ، فإن تهيأ سرّاً، فهو أفضل، وإلاّ فعلانية، ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء، ويمكن أن يراد بالسرّ صدقة النفل، وبالعلانية صدقة الفرض، وجملة. {يَرْجُونَ تجارة لَّن تَبُورَ} في محل رفع على خبرية إنّ كما قال ثعلب، وغيره، والمراد بالتجارة ثواب الطاعة ومعنى {لَّن تَبُورَ}: لن تكسد، ولن تهلك، وهي صفة للتجارة، والإخبار برجائهم لثواب ما عملوا بمنزلة الوعد بحصول مرجوهم. واللام في: {لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} متعلق بلن تبور، على معنى: أنها لن تكسد لأجل أن يوفيهم أجور أعمالهم الصالحة، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: {فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ} [النساء: 173]. وقيل: إن اللام متعلقة بمحذوف دلّ عليه السياق: أي: فعلوا ذلك ليوفيهم، ومعنى {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} أنّه يتفضل عليهم بزيادة على أجورهم التي هي جزاء أعمالهم، وجملة {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} تعليل لما ذكر من التوفية والزيادة: أي: غفور لذنوبهم شكور لطاعتهم، وقيل: إن هذه الجملة هي: خبر إنّ، وتكون جملة يرجون في محل نصب على الحال، والأوّل أولى.
{والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب} يعني: القرآن. وقيل: اللوح المحفوظ على أن من تبعيضية، أو ابتدائية، وجملة: {هُوَ الحق} خبر الموصول و{مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} منتصب على الحال، أي: موافقاً لما تقدّمه من الكتب {إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} أي: محيط بجميع أمورهم {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} المفعول الأوّل لأورثنا الموصول، والمفعول الثاني الكتاب، وإنما قدّم المفعول الثاني لقصد التشريف، والتعظيم للكتاب، والمعنى: ثم أورثنا الذين اصطفيناهم من عبادنا الكتاب، وهو: القرآن، أي: قضينا، وقدّرنا بأن نورث العلماء من أمتك يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك، ومعنى اصطفائهم: اختيارهم، واستخلاصهم، ولا شك أن علماء هذه الأمة من الصحابة، فمن بعدهم قد شرفهم الله على سائر العباد، وجعلهم أمة وسطاً؛ ليكونوا شهداء على الناس، وأكرمهم بكونهم أمة خير الأنبياء، وسيد ولد آدم. قال مقاتل: يعني: قرآن محمد جعلناه ينتهي إلى الذين اصطفينا من عبادنا. وقيل: إن المعنى: أورثناه من الأمم السالفة، أي: أخرناه عنهم، وأعطيناه الذين اصطفينا، والأوّل أولى. ثم قسم سبحانه هؤلاء الذي أورثهم كتابه، واصطفاهم من عباده إلى ثلاثة أقسام، فقال: {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ} قد استشكل كثير من أهل العلم معنى هذه الآية، لأنه سبحانه جعل هذا القسم الظالم لنفسه من ذلك المقسم، وهو من اصطفاهم من العباد، فكيف يكون من اصطفاه الله ظالماً لنفسه؟ فقيل: إن التقسيم هو راجع إلى العباد، أي: فمن عبادنا ظالم لنفسه، وهو: الكافر، ويكون ضمير {يدخلونها} عائداً إلى المقتصد والسابق. وقيل: المراد بالظالم لنفسه هو: المقصر في العمل به، وهو: المرجأ لأمر الله، وليس من ضرورة ورثة الكتاب مراعاته حقّ رعايته، لقوله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب} [الأعراف: 169]، وهذا فيه نظر، لأن ظلم النفس لا يناسب الاصطفاء. وقيل: الظالم لنفسه: هو: الذي عمل الصغائر، وقد روي هذا القول عن عمر، وعثمان، وابن مسعود، وأبي الدرداء، وعائشة، وهذا هو الراجح، لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء، ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة يحلون فيها من أساور من ذهب إلى آخر ما سيأتي. ووجه كونه ظالماً لنفسه أنه نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له، فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات لكان لنفسه فيها من الثواب حظاً عظيماً.
وقيل: الظالم لنفسه هو: صاحب الكبائر.
وقد اختلف السلف في تفسير السابق، والمقتصد، فقال عكرمة، وقتادة، والضحاك: إن المقتصد المؤمن العاصي، والسابق التقيّ على الإطلاق، وبه قال الفراء، وقال مجاهد في تفسير الآية: {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ} أصحاب المشأمة {وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ}: أصحاب الميمنة {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات}: السابقون من الناس كلهم.
وقال المبرد: إن المقتصد هو الذي يعطي الدنيا حقها، والآخرة حقها.
وقال الحسن: الظالم الذي ترجح سيآته على حسناته، والمقتصد الذي استوت حسناته، وسيآته، والسابق من رجحت حسناته على سيآته.
وقال مقاتل: الظالم لنفسه أصحاب الكبائر من أهل التوحيد، والمقتصد الذي لم يصب كبيرة، والسابق الذي سبق إلى الأعمال الصالحة.
وحكى النحاس: أن الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيآته، فتكون جنات عدن يدخلونها للذين سبقوا بالخيرات لا غير، قال: وهذا قول جماعة من أهل النظر، لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى.
وقال الضحاك. فيهم ظالم لنفسه، أي: من ذرّيتهم ظالم لنفسه.
وقال سهل بن عبد الله: السابق العالم، والمقتصد المتعلم، والظالم لنفسه الجاهل.
وقال ذو النون المصري: الظالم لنفسه الذاكر لله بلسانه فقط، والمقتصد الذاكر بقلبه، والسابق الذي لا ينساه.
وقال الأنطاكي: الظالم صاحب الأقوال، والمقتصد صاحب الأفعال، والسابق صاحب الأحوال.
وقال ابن عطاء: الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا، والمقتصد الذي يحب الله من أجل العقبى، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحقّ. وقيل: الظالم الذي يعبد الله خوفاً من النار، والمقتصد الذي يعبده طمعاً في الجنة، والسابق الذي يعبده لا لسبب. وقيل: الظالم الذي يحبّ نفسه، والمقتصد الذي يحبّ دينه، والسابق الذي يحبّ ربه. وقيل: الظالم الذي ينتصف ولا ينصف، والمقتصد الذي ينتصف، وينصف، والسابق الذي ينصف ولا ينتصف وقد ذكر الثعلبي، وغيره أقوالاً كثيرة، ولا شك أن المعاني اللغوية للظالم، والمقتصد، والسابق معروفة، وهو يصدق على الظلم للنفس بمجرّد إحرامها للحظ، وتفويت ما هو خير لها، فتارك الاستكثار من الطاعات قد ظلم نفسه باعتبار ما فوّتها من الثواب، وإن كان قائماً بما أوجب الله عليه تاركاً لما نهاه الله عنه، فهو من هذه الحيثية من اصطفاه الله، ومن أهل الجنة، فلا إشكال في الآية، ومن هذا قول آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23]، وقول يونس: {إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87]، ومعنى المقتصد: هو من يتوسط في أمر الدين، ولا يميل إلى جانب الإفراط، ولا إلى جانب التفريط، وهذا من أهل الجنة، وأما السابق، فهو: الذي سبق غيره في أمور الدين، وهو خير الثلاثة.
وقد استشكل تقديم الظالم على المقتصد، وتقديمهما على السابق مع كون المقتصد أفضل من الظالم لنفسه، والسابق أفضل منهما، فقيل: إن التقديم لا يقتضي التشريف كما في قوله: {لاَ يَسْتَوِى أصحاب النار وأصحاب الجنة} [الحشر: 20]، ونحوها من الآيات القرآنية التي فيها تقديم أهل الشرّ على أهل الخير، وتقديم المفضولين على الفاضلين. وقيل: وجه التقديم هنا: أن المقتصدين بالنسبة إلى أهل المعاصي قليل، والسابقين بالنسبة إلى الفريقين أقلّ قليل، فقدّم الأكثر على الأقلّ، والأوّل أولى، فإن الكثرة بمجرّدها لا تقتضي تقديم الذكر.
وقد قيل: في وجه التقديم غير ما ذكرنا مما لا حاجة إلى التطويل به.
والإشارة بقوله: {ذلك} إلى توريث الكتاب، والاصطفاء. وقيل: إلى السبق بالخيرات، والأوّل أولى، وهو مبتدأ، وخبره: {هُوَ الفضل الكبير} أي: الفضل الذي لا يقادر قدره. وارتفاع {جنات عَدْنٍ} على أنها مبتدأ، وما بعدها خبرها، أو على البدل من الفضل، لأنه لما كان هو السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب، وعلى هذا، فتكون جملة: {يَدْخُلُونَهَا} مستأنفة، وقد قدّمنا: أن الضمير في يدخلونها يعود إلى الأصناف الثلاثة، فلا وجه لقصره على الصنف الأخير، وقرأ زرّ بن حبيش، والترمذي: {جنة} بالإفراد، وقرأ الجحدري: {جنات} بالنصب على الاشتغال، وجوّز أبو البقاء: أن تكون جنات خبراً ثانياً لاسم الإشارة، وقرأ أبو عمرو: {يدخلونها} على البناء للمفعول، وقوله: {يُحَلَّوْنَ} خبر ثان لجنات عدن، أو حال مقدّرة، وهو من حليت المرأة، فهي: حال، وفيه إشارة إلى سرعة الدخول، فإن في تحليتهم خارج الجنة تأخيراً للدخول، فلما قال: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} أشار أن دخولهم على وجه السرعة {مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} {من} الأولى تبعيضية، والثانية بيانية، أي: يحلون بعض أساور كائنة من ذهب، والأساور جمع أسورة جمع سوار، وانتصاب {لُؤْلُؤاً} بالعطف على محل {مِنْ أَسَاوِرَ} وقرئ بالجرّ عطفاً على ذهب {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} قد تقدّم تفسير الآية مستوفى في سورة الحج.
{وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} قرأ الجمهور: {الحزن} بفتحتين. وقرأ جناح بن حبيش بضمّ الحاء، وسكون الزاي. والمعنى: أنهم يقولون هذه المقالة إذا دخلوا الجنة. قال قتادة: حزن الموت.
وقال عكرمة: حزن السيئات والذنوب، وخوف ردّ الطاعات.
وقال القاسم: حزن زوال النعم، وخوف العاقبة. وقيل: حزن أهوال يوم القيامة.
وقال الكلبي: ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة.
وقال سعيد بن جبير: همّ الخبز في الدنيا. وقيل: همّ المعيشة.
وقال الزجاج: أذهب الله عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش، أو معاد. وهذا أرجح الأقوال، فإن الدنيا، وإن بلغ نعيمها أيّ بلغ لا تخلو من شوائب ونوائب تكثر لأجلها الأحزان، وخصوصاً أهل الإيمان، فإنهم لا يزالون وجلين من عذاب الله خائفين من عقابه، مضطربي القلوب في كل حين، هل تقبل أعمالهم أو تردّ؟ حذرين من عاقبة السوء، وخاتمة الشرّ، ثم لا تزال همومهم وأحزانهم حتى يدخلوا الجنة.
وأما أهل العصيان: فهم، وإن نفس عن خناقهم قليلاً في حياة الدنيا التي هي دار الغرور، وتناسوا دار القرار يوماً من دهرهم، فلابد أن يشتدّ وجلهم، وتعظم مصيبتهم، وتغلي مراجل أحزانهم إذا شارفوا الموت، وقربوا من منازل الآخرة، ثم إذا قبضت أرواحهم، ولاح لهم ما يسؤوهم من جزاء أعمالهم ازدادوا غماً، وحزناً، فإن تفضل الله عليهم بالمغفرة، وأدخلهم الجنة، فقد أذهب عنهم أحزانهم، وأزال غمومهم، وهمومهم {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} أي: غفور لمن عصاه، شكور لمن أطاعه. {الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ} أي: دار الإقامة التي يقام فيها أبداً، ولا ينتقل عنها تفضلاً منه ورحمة. {لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} أي: لا يصيبنا في الجنة عناء، ولا تعب، ولا مشقة {وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}، وهو: الإعياء من التعب، والكلال من النصب.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} قال: الأبيض، والأحمر، والأسود، وفي قوله: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ} قال: طرائق {بَيْضٌ} يعني: الألوان.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: الغربيب الأسود الشديد السواد.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ} قال: طرائق تكون في الجبل بيض {وَحُمْرٌ} فتلك الجدد {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} قال: جبال سود {وَمِنَ الناس والدواب والأنعام} قال: {كذلك} اختلاف الناس، والدوّابّ، والأنعام كاختلاف الجبال، ثم قال: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} قال: فصل لما قبلها.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} قال: العلماء بالله الذين يخافونه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن عدّي عن ابن مسعود قال: ليس العلم من كثرة الحديث، ولكن العلم من الخشية.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد في الزهد، وعبد بن حميد، والطبراني عنه قال: كفى بخشية الله علماً، وكفى باغترار بالله جهلاً.
وأخرج أحمد في الزهد عنه أيضاً قال: ليس العلم بكثرة الرواية، ولكن العلم الخشية.
وأخرج ابن أبي شيبة عن حذيفة قال: بحسب المؤمن من العلم أن يخشى الله.
وأخرج عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس: أن حصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف نزلت فيه {إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله وَأَقَامُواْ الصلاة} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} قال: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله كل كتاب أنزل، فظالمهم مغفور له، ومقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
وأخرج الطيالسي، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ أنه قال في هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات} قال: «هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة، وكلهم يدخلون الجنة» وفي إسناده رجلان مجهولان. قال الإمام أحمد في مسنده قال: حدّثنا شعبة عن الوليد بن العيزار: أنه سمع رجلاً من ثقيف يحدّث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد.
وأخرج الفريابي، وأحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله} فأما الذين سبقوا، فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب. وأما الذين اقتصدوا، فأولئك يحاسبون حساباً يسيراً. وأما الذين ظلموا أنفسهم، فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر، ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته، فهم الذين يقولون: {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}» إلى آخر الآية. قال البيهقي: إذا كثرت روايات في حديث ظهر أن للحديث أصلاً. ا. ه، وفي إسناد أحمد محمد بن إسحاق، وفي إسناد ابن أبي حاتم رجل مجهول، لأنه رواه من طريق الأعمش، عن رجل، عن أبي ثابت، عن أبي الدرداء، ورواه ابن جرير، عن الأعمش قال: ذكر أبو ثابت.
وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني عن عوف بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمتي ثلاثة أثلاث: فثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، ثم يدخلون الجنة، وثلث يمحصون، ويكشفون، ثم تأتي الملائكة، فيقولون وجدناهم يقولون: لا إله إلاّ الله وحده، فيقول الله: أدخلوهم الجنة بقولهم لا إله إلاّ الله وحده، واحملوا خطاياهم على أهل التكذيب، وهي: التي قال الله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]، وتصديقها في التي ذكر في الملائكة. قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} فجعلهم ثلاثة أفواج. فمنهم ظالم لنفسه، فهذا الذي يكشف، ويمحص، ومنهم مقتصد، وهو الذي يحاسب حساباً يسيراً. ومنهم سابق بالخيرات، فهو الذي يلج الجنة بغير حساب ولا عذاب، بإذن الله يدخلونها جميعاً».
قال ابن كثير بعد ذكر هذا الحديث: غريب جدًّا ا ه. وهذه الأحاديث يقوّي بعضها بعضاً، ويجب المصير إليها، ويدفع بها قول من حمل الظالم لنفسه على الكافر، ويؤيدها ما أخرجه الطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أسامة بن زيد: {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ} الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلهم من هذه الأمة، وكلهم في الجنة» وما أخرجه الطيالسي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، والحاكم، وابن مردويه عن عقبة بن صهبان قال: قلت لعائشة: أرأيت قول الله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب} الآية، قالت: أما السابق، فمن مضى في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهد له بالجنة. وأما المقتصد، فمن تبع آثارهم، فعمل بمثل عملهم حتى لحق بهم. وأما الظالم لنفسه، فمثلي، ومثلك، ومن اتبعنا، وكلّ في الجنة.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، وثلث يجيئون بذنوب عظام إلاّ أنهم لم يشركوا، فيقول الربّ: أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي، ثم قرأ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب} الآية.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، والبيهقي في البعث عن عمر بن الخطاب: أنه كان إذا نزع بهذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب} قال: ألا إن سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له.
وأخرجه العقيلي، وابن مردويه، والبيهقي في البعث من وجه آخر عنه مرفوعاً.
وأخرجه ابن النجار من حديث أنس مرفوعاً.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله، والظالم لنفسه، وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن عثمان بن عفان: أنه نزع بهذه الآية، ثم قال: ألا إن سابقنا أهل جهادنا، ألا وإن مقتصدنا أهل حضرنا، ألا وإن ظالمنا أهل بدونا.
وأخرج سعيد بن منصور، والبيهقي في البعث عن البراء بن عازب في قوله: {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ} الآية قال: أشهد على الله أنه يدخلهم جميعاً الجنة.
وأخرج الفريابي، وابن جرير، وابن مردويه عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} قال: كلهم ناج، وهي هذه الأمة.
وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، عن ابن عباس في الآية قال: هي مثل التي في الواقعة {أصحاب الميمنة}، و{أصحاب المشأمة}. و{السابقون}: صنفان ناجيان، وصنف هالك.
وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والبيهقي عنه في قوله: {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ} قال: هو الكافر، والمقتصد أصحاب اليمين.
وهذا المرويّ عنه رضي الله عنه لا يطابق ما هو الظاهر من النظم القرآني، ولا يوافق ما قدّمنا من الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة من الصحابة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن عبد الله بن الحارث: أن ابن عباس سأل كعباً عن هذه الآية، فقال: نجوا كلهم، ثم قال: تحاكت مناكبهم، وربّ الكعبة، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم، وقد قدّمنا عن ابن عباس ما يفيد أن الظالم لنفسه من الناجين، فتعارضت الأقوال عنه.
وأخرج الترمذي، والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله: {جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً}، فقال: إن عليهم التيجان، إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ} الآية قال: هم قوم في الدنيا يخافون الله، ويجتهدون له في العبادة سرًّا، وعلانية، وفي قلوبهم حزن من ذنوب قد سلفت منهم، فهم خائفون أن لا يتقبل منهم هذا الاجتهاد من الذنوب التي سلفت، فعندها {قَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} غفر لنا العظيم، وشكر لنا القليل من أعمالنا.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عنه في الآية قال: حزن النار.